رجل العائلة

أبي هو الأساس في حياتي

أبي هو الأساس في حياتي

منذ أن عرفت الكاميرا، أحببت أن ألتقط صورا لكل المناسبات، واللامناسبات.

فأنا أتذكر تذمر صديقاتي مني لجلبي الكاميرا معي في كل الأوقات.

وأحسب أنها خصلة في عائلتي — حبنا لتوثيق الأحداث.

وأحسب أيضا أننا ورثناها من أبي – حفظه الله؛ فأبي رجل متعدد المواهب والميول.

هو أكاديمي وظيفة، معلم قدير للغة العربية من عقود طويلة.

أعطى تلك البلد كما أعطته، وربى أجيالا من أبناءها وبنتاها ليصبحوا رجالا ونساء كل في موقعه.

فهو يذكر لنا كيف أن طلابه السابقين يصادفونه ويذكرونه في حين أنه لا يتذكرهم.

وهذا الطبيعي، فنحن نذكر مدرسينا الذين أثروا فينا، وهذا الأثر هو ما يعلق في ذكرتنا على مر السنين.

وهو عاشق لكرة القدم، ولاعب وحكم ومدرب سابق في النوادي الفلسطينية (قديما) في الكويت.

هواية لا ينقطع عنها ولو من خلال شاشة التلفاز.

وقد كان ليكون محترفا “للعبة الجميلة” — فرصة سنحت لأخي رامي من بعده، وإن مرت كما جاءت.

وهو – كأغلب الآباء – ماهر في الأعمال اليدوية،

من نجارة إلى ميكانيكا إلى كهرباء إلى تصليح كل ما يحتاج تصليح في المنزل.

فالحقيقة أن أبي – أطال الله بعمره – لا يلجأ إلى عامل ذي صنعة إلا عندما يعجز عنها.

وهو خطاط بارع للخط العربي، وله قدرة فنية في الرسم.

فأنا أتذكر كيف كان دائما يكتب ويرسم لنا “وسائلنا”، لوحاتنا المدرسية، لنقدمها في الفصل من أجل درجات زائدة،

أو فقط لأننا نفخر بأن أبي هو من كتبها لنا — “فأبي خطاط ماهر”، أتذكر نفسي دوما أقول…إلى الآن.

وهو يعشق تجميع الأشياء لإعادة إستخدامها لاحقا؛ خصلة غالبا ما تناقض مشاعر أمي.

وهو شعور أنثوي مفهوم، فأغلب الأشياء تبقى على حالها لسنوات من غير فائدة ترجى منها.

وزيادة على ذلك، أبي دائما ما أحب أن يجمد اللحظات في إطار لا يغيره الزمن.

ترعرعنا في كنف أبي، كاميراته المتعددة، وهوايته الأسبوعية ونحن صغار بأن يسجل لنا شريط فيديو على الأغاني الوطنية الفلسطينية.

كنا نتشوق في نهاية كل أسبوع بعد الدوام المدرسي إلى تلك الساعات التي نجتمع فيها ونطلق العنان…”لبراءتنا”.

كنا نرقص الدبكة، وأبي يشاركنا بعد أن يعطي الكاميرا لأخي الكبير.

كنا ونحن على تلك الحال، نأخذ من أحدنا هدفا لنستفزه ونضحك.

وغالبا ما يكون أخي محمد، فهو كان يندمج مع أدواره أمام الكاميرا.

كنا نفعل ذلك، وأبي يحفزنا ويضحك بدوره، كونه صاحب نكتة بطبعه.

وفي النهاية، كان الفيلم كثيرا ما ينتهي بشجار فيما بيننا، أو بنرفزة أبوية.

في بعض الأحيان، كان أبي يخرج الكاميرا من مخبئها لتصوير لحظات مهمة في حياتنا،

كسفر أخي حسام مثلا،

أو كرجوعه من السفر وإجتماعنا على السفرة مع عائلته.

كعرس أخي رامي،

أو حفلة من حفلات أختي رانيا مع صديقاتها.

كدور تمثيلي لأخي محمد في طفولته،

أو ليصورني بلا مناسبة أعبر عنها سوى وأنا أشتكي: “أريد أن أسافر للدراسة خارجا!”

ومنذ طفولته، أخي عمار الذي تربى في منزلنا كان دائما حاضرا في تلك اللحظات.

أبي له مميزات شتى، ونحمد الله أنه أعطانا إياها بكرمه المعروف عنه.

وهو مع شدته لصعوبة حياة الفلسطيني من جيله الذين هجر آبائهم وأمهاتهم من قرى ال48،

إلا أنه رجل حنون في داخله، يحب الأطفال ويحبونه بدورهم،

وهي صفة جعلته ناجحا في عمله.

وهو مع إستقامته التي لا تغفر لمن لا يلتزم بها،

إلا أنه لا يتوانى عن تقديم المساعدة لكل من يستطيع مساعدته.

ونحن وإن إلتجأنا – كعادتنا – إلى تفهم أمي المطلق في كل أمورنا،

إلا أنه يبقى أبانا الذي نحبه ونحترمه وندعو له،

رجل العائلة، عمادها الصلب الذي نتكل على وجوده دائما،

وهذا هو دوره الذي كتبه الله تعالى له، وهذا ما نرجوه دوما منه.

حفظك الله يا أبي، وجعلك ذخرا دائما لنا.

مقتطف من رواية "أم سعد" لغسان كنفاني:
"وكانت الصحف ملقاة على الأرض،
والراديو الذي تركته في الليل مفتوحاً أخذ يتلو نشرة الأخبار،
وكانت أم سعد تنظر إليّ تارة واليه تارة أخرى، وبدت لي نظراتها،
وهي تنتقل مني إليه، إنما تمد بيننا قضبان حديد تعجز كفاي عن هزها،
ثم قالت:
- أتحسب إننا لا نعيش في الحبس؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي
داخل ذلك الحبس العجيب؟ الحبوس أنواع يا ابن العم! أنواع!
المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والراديو حبس،
والباص والشارع وعيون الناس..أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية حبس،
والمختار حبس..تتكلم أنت على الحبوس؟ طول عمرك محبوس..
أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات؟
حبس، حبس، حبس. أنت نفسك حبس..فلماذا تعتقدون أن سعد هو المحبوس؟
محبوس لأنه لم يوقع ورقة تقول انه آدمي..آدمي؟ من منكم آدمي؟
كلكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بأخرى ومع ذلك فأنتم محبوسون..
قمتُ، وكانت ترتجف،
لا شك أنها كانت المرة الأولى التي رأيتها فيها مجتاحة بمثل ذلك الغضب،
قلت لها:
- هدئي أعصابك يا أم سعد..أنا لم أقصد شيئاً.
وبهدوء قالت:
- كل واحد يقول الآن " أنا لم أقصد شيئاً "..
فلماذا يحدث كل الذي يحدث؟ لماذا؟ لماذا لا يتركون الطريق للذين يقصدون؟
لماذا أنت لا تقصد شيئاً؟
ثم اقتربت مني.
- اسمع..أنا أعرف أن سعد سيخرج من الحبس. الحبس كله!
أتفهم؟"
هذا المنشور نشر في عن فلسطين, عن الحياة وكلماته الدلالية , , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

4 Responses to رجل العائلة

  1. Mona Reda كتب:

    الله يخليلك والدك و والدتك و كل أهلك يا شام.. أسلوب مشوق و رائع في الكتابة..

  2. Mahdi Shannak كتب:

    الله يخليلك اياه .. ويطوّل بعمره 🙂
    واتمنى من الله ان أصبح مثله بالخصال يوما ..

اترك رداً على Mona Reda إلغاء الرد