قَدَر في ذبابة

تقبل قدرك كما هو، ولا تحرم حياتك من ألوانها

تقبل قدرك كما هو، ولا تحرم حياتك من ألوانها

يقال أن السماء هي الحد،

والله تعالى يضرب أمثاله في أصغر خلقه، كذبابة مثلا.

فلواقع الذباب تفسيرات أكثر تتعدى نسق مكبات النفاية.

وبهذا، لي هذه الحكاية:

في مساء شتوي ليس ببرودة هذا المساء،

دخلت ذبابة غرفتي،

وأخذت من فضائها حقلا للطيران.

لا أدري أي باب فتح أمامها وإختارت لتدخل منه –

باب يمر خلاله نور يجذبها نحوه،

من عتمة ظلام يعميها ويخنقها.

لم أتضايق من وجودها كثيرا.

فيومها كنت قد إنعزلت طويلا، ووجدت فيها “ونسا” ما –

في محله كما أتمنى.

صرت أراقب تحركاتها المألوفة كونها كأي ذبابة أخرى،

والمميزة لها في تلك اللحظة كونها ذبابة ما بعينها.

أسقطت نفسها على الجدار المجاور لي، على إحدى الأوراق المعلقة.

وبدأت تفرك “ذراعيها” الطويلتين كأنها أمام وليمة أو نار موقدة،

ولا أدري لما تحديدا يفعل الذباب ذلك.

لم يعجبني حالها كما هو، ولا أعرف ما ضايقني من منظرها سوى منظرها.

فضربت بكتابي الذي كنت أقرأ به على الحائط بجانبها، أخيفها لتطير.

أردت أن أرى إن كانت سترجع إلى نفس المكان الذي طارت منه،

أم ستذهب إلى بقعة أخرى.

فنظريا، ومن رؤية إنسان،

الأمور قد تختلط على الذبابة كونها تملك أكثر من عدسة للنظر،

وقد تكون لها فكر فلسفي معين بالحياة، كما لبعضهم من أهل البشر:

بأن كل الأماكن والأشياء سواسية.

ولكنها لم ترجع أبدا.

أسعدني لحد الغبطة ذكاؤها في الإختيار،

وإستسلامها المطلق للقدر.

كنت قد إرتأيت لها نهاية مغايرة.

فبعد تجربتي الصغيرة ومن ضجري، كان لي أن أضع حدا لأزيزها المستمر؛

بالنسبة لي، كانت حياتها منتهية.

ولكن القدر تدخل ولم تختتم قصتها كما توقعت ورغبت،

بلى كما كتب لها بحسب خطة مسبقة الترسيم.

يحدث أننا جميعا بمرحلة أو بأخرى في حياتنا وضعنا بموضع تلك الذبابة،

وشعرنا بشعورها –

مع إختلاف الظروف طبعا؛

فكرامتنا ومكانتنا كبشر لا تسمح أن نكون عرضة لضربات قاتلة ممن هم “مثلنا” وإن كانوا أقدر منا،

رغم أنه موضوع مفتوح للجدل هذه الأيام.

وتصرف الذبابة ذلك ذكرني بحالنا مع القدر.

أحيانا يتدخل القدر لإيقاف نهايات مأساوية،

وأحيانا، هو لا يسعه إلا خلق نهايات مأساوية –

أو هكذا قد نعتقد حينها، لقصر نظرنا وضعف إيماننا.

فالذبابة فضلت الرحيل،

حفاظا على نفسها من مقتل محتوم،

ولكنها نفسها لا تدري ما كان ينتظرها وما دفعها للرحيل.

فضربتي التي أخطأتها كانت عقبة في طريق خططته لنفسها،

ولكنها أيضا وسيلة لقدرها حتى يأخذ مجراه؛

حتى تجد الذبابة ما هو أفضل لها، في مستقبل يحتويها.

وقد يكون هروبها المباغت هدى هديت به بلا قصد منها،

لخير ما فعلته بحياتها.

وقد يكون لدعاء صادق أستجيب لها من أناس صادقين.

أما عن قلبها وما فيه من أمنيات تناثرت كالغبار،

فتبقى محلها أرفف النسيان، عرضة للمسح بيد الزمان.

فعليا، الإنسان لا يتوقف عن الأمنيات،

والجري الدائم نحو فرصة متجددة لسعادة نسبية.

فحتى ولو كسر قلبه مرة أو اثنتين أو أكثر (لمن هم أكثر شجاعة في المخاطرة به)،

فإنه في بعض الأوقات لا يمتلك سوى أن يرجع مرارا،

إلى المكان نفسه الذي حقق له يوما ما سعادة لحظية ورضا مرجو،

ليتمسك به بأطراف أربعة – كالغريق بقشة،

كأنه لن يجد معنى لحياته بعيدا عن ذلك المكان.

وقد يكون حينئذ قد حكم على نفسه بالسخط والبؤس؛

فبعض الأماكن مهما رغبنا بها،

وآمنا إيمانا مطلقا (إتباعا لإشارات كونية) بأنها أخيرا مرسى لأفراحنا ووطن لجراحاتنا،

فهي تبقى لا تناسبنا.

والعبرة غالبا نراها تنتظرنا بالنهاية.

أي أن البديل، “نهايتنا السعيدة” لو تحققت كما حلمنا وخططنا،

قد تكون من البشاعة نتمنى عندها لو أن أحلامنا انطفأت رمادا قبل أن تصير واقعا،

لو أننا عرفنا،

لو أننا تبصرنا للحظة،

لو أن آمالنا لم تصبح يوما ملكنا.

ولكنه يبقى وقتها ذلك نصيبنا وتلك حكايتنا كما كتبت لنا.

فلكي نختصر الأمر على أنفسنا،

نحن لا نملك سوى أن نتقبل قدرنا مهما كان، ومهما كلفنا الأمر.

أي نستسلم له تماما – كما فعلت الذبابة،

وإن أجبرنا عندها على أن نذهب بعيدا، تاركين قلبنا وراءنا،

لعله يعقل يوما ما، ويلين، وينسى،

ليعود لنا حين نجد حكمة القدر شاخصة أمامنا.

أما الآن، أنا لا أدري ما هو مآل تلك الذبابة.

لكني أتخيلها،

قد حصلت على ما هو أكبر من مجرد مراد لحظي إشتهته:

فبدلا عن ضوء غرفة مؤقت وباهت كانت ستودي بحياتها لهثا وراءه،

يعوضها الله تعالى بمكان نائ عنا نحن بني البشر،

ليصبح قرص الشمس ونور القمر دليلاها اللذين لا تضل طريقا بعدهما أبدا،

وغذاء شهيا يقدم لها كل يوم،

بحيث تصبح قصصها مع مكبات النفاية من الماضي البائس.

أي رضيت وإحتسبت، فوصلت.

أتخيلها بسعادتها تلك،

وأبتسم.

مقتطف من رواية "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي:
"فبالنسبة إلى فريدة التي قضت عمرها عبدة في بيت الزوجية،
ولم تغادره سوى لتعود إلى أخيها مطلقة،
لم تكن الحرية سوى إمكانية النظر إلى الآخرين
من شرفة بحرية وهم يعيشون، ويسبحون،
ويتحمصون تحت الشمس نيابة عنها.
الحرية لم تكن أكثر من حقها في الحلم.
أما حريتي فقد جاءت معاكسة لمنطق حريتها.
لقد أصبحت أنا إمرأة حرة، فقط لأنني قررت أن أكف عن الحلم!
اكتشفت ذلك البارحة. عندما فتحت دفتري الأسود
الذي أهملته بعض الشيء منذ قدومي،
كي أسجل عليه أول فكرة توصلت إليها أخيرا:
الحرية أن لا تنتظر شيئا."
هذا المنشور نشر في عن الحياة وكلماته الدلالية , , , , . حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق